الثلاثاء، 12 نوفمبر 2013

التكرار الذى لا يدعو للملل فى اعمال ديغا



هناك ولع ما يصيب الفنان بأتجاه مشاهد معينة فلا يرسم سواها  وعادة ما يكون

 هذا الانجذاب ما  تجاه شيء  بعينيه  عندما  تتوحد  لدى الفنان النظرة  الذاتية الجمالية بالابداعية الفكرية ,  الفنانون عادة يعطون تكرارتهم  قدراً من القيم التعبيرية المختلفة التى تثيرهم وتحرك وجدانهم , فوجدنا  مثلاً فان جوخ كان مولع بالمشاهد الطبيعية وخاصة الحقول ورسم لها عدد كبير من اللوحات  والفرنسى هنرى  لوتريك كيف  أن فرشاته لم تغادر عالم الليل  فتخصص فى رسم حاناته وراقصاته وزبائنه وحتى فتيات ليله و  لم يختلف كثيراً الفنان الفرنسى ادغار ديغا  عن هؤلاء  فولعه بفن الباليه وراقصاته كان على اشده للحد  أنه عكف فى فترة ما من حياته الفنية على  رسم راقصات الباليه  اللوائى هن اقرب للفراشات  منهن للأناث , كان   ديغا قبل رسمه لهذا الفن كثير الحضور للحفلات الراقصة التى تقام فى دار الاوبرا الفرنسية باستمرار والتي كانت على مقربة من منزله فكان يذهب لهناك سيراً على الاقدام عشق ديغا هذا الفن الراقى  المنتشر فى الحياة الثقافية الفرنسية مثل الكثير من الناس  فى ذلك الوقت كان منجذب يأتجاه العالم الكلاسيكي  وعينه على الواقعية الحديثة, وقد قضى ديغا من عمره قرابة الست سنوات( 1885 – 1891 ) وهو يرسم هذا المشاهد بأتقان شديد حتي ان راقصة الباليه  الاميريكية الشهيرة (روز مور) بعد حضورها احد معارض ديغا  قالت ( انه يأخذها للماضى ولا تستطيع عند رؤية لوحاته ان تقاوم نفسها برفع احد ساقيها لاداء التدريبات الصباحية كأى راقصة  باليه ) , كان ديغا فى لوحاته كراقصة الباليه التى تمارس تدريباتها وحركاتها  فقد احب هذا الفن  بكل تفاصيله  كما لو أنه  يمارسه على الورق  بنفس الخطوات ونفس الحركات الانسيابية  الرشيقة , وإلا ما الذى يجعل الفنان أن يرسم لوحة لاحد الفتيات وهى تنحني برشاقة لتربط شريط حذائها  الساتاني او و هي تعدل تنورتها القصيرة وقد اكتشف مؤرخو الفن عن طريق الاشعة تحت الحمراء  أن اذرع وسيقان وروؤس الفتيات تغيرت ما لا يقل عن ثمانية مرات على قماش اللوحة تفسها وهذا يدل على انه يغير بأستمرار وضعياتهن حسب ما يقمن به من حركات ,  تماماً كما لو أنه هو الذى يقوم بالتدريب على الرقص, وبالرغم من أن يجب على التشكيلى التجديد  دوماً  الا أن  مع  لوحات ديغا المتكررة فى عالم الباليه لم يشعر يوماً المشاهد بالملل فكل لوحة مختلفة عن اخرى  فالتكرار فى الفن نوعان  الاول لحظي يبدأ عند اللحظات الأولى التى تدعو الفنان للتكرار والذى لا يتخذه طابعاً خاصاً لرسوماته  ويوظف لهذا الطابع  ادوات معينة كالوحدات الزخرفية مثلاً وكما هو معروف فالوحدات الزخرفية تستدعى تكرارها لخلق عامل التوازن , اما الصنف الثانى فهو تكرار مستمر , يستمر فيه رسم المفردات على وتيرة واحدة وهنا يصبح التكرار الياً يفتقد الفكرة والاحساس ولا يمت للأبداع بصلة وهو يسمى خطأ بالأسلوب حيث لا اسلوب فى الابداع  ويقدمه هذا النوع الكثير من الفنانين تحت ذريعة الاسلوب الا ان ما يقدمونه احياناً  لا يمت للفن بصلة فهو تكرار رتيباً مستمر وهذا لم يحدث فى فن ديغا لأنه مفرداته كانت مختلفة فى كل لوحة كان يضيف عنصر جديد او شكل جديد  فتشعر بأن الموضوع مختلف ,كان ديغا حريص على الذهاب لاوبرا باريس يومياً لمشاهدة البروفات  ويتابع كل ما تفعله هؤلاء الفتيات بهدوء من وراء الكواليس  هذا العالم وقد نقله لنا تماماً , وكان ديغا  يمتاز بطبيعة مرحة هادئة جعلته يصنع الكثير من علاقات  الصداقة بينه وبين الراقصات وبالرغم من ذلك ظل عازفاً عن اقامة العلاقات العاطفية وكان منعزل فى حياته ومعروف عنه انه لم يتزوج طيلة حياته  وله معتقد مشهور بأن يجب على الفنان ان  لا يكون له حياة اجتماعية واسعة , كل ما كان يشغله وقتها ان يرسم حياة هؤلاء الفتيات خارج وداخل الكواليس  وقال ذات مرة ( أتمنى لو استطيع أن أضع قلبى فى كيس حريرى  وردى وأخيطه وأعلقه معهن  ليصبح مثل احذيتهن )  كان حب الفنان للباليه هو الذى ادى به ليصل الى هذا الكمال الواضح فى عمله , ومن بين جميع اعماله لراقصات الباليه جاءت منحوتته (  الباليرينا الصغيرة ) الذى نحتها عام 1880 لراقصة لا تزيد عن عمر اربعة عشر عاماً من اشهر  اعماله  وهى منحوتة فى الاصل من الشمع  البنى المحمر ولكن ورثة الفنان عام 1920  حولت الفنان للصب من البرونز عند احد المسابك الخاصة بذلك وتحت اشراف فنى خاص وترتدى الباليرينا الصغيرة  زى فتيات الباليه المصمم من قماش التول والشاش  وحذاء البالرينا الساتانى بالاضافة انها تملك شعر مستعار من الشعر الحقيقى  وصدمت تلك القطعة الفنية مشاهديها لمحكاتها مع الواقع حتى ولكأن الفتاة تقف امامك  مجهدة  بعد تدريب شاق من تدريبات الباليه والمجهد كثيراً لمراهقة صغيرة  قد  افتتحت اوبرا باريس  موسمها لعام 2011  بعمل مسرحى يحمل اسم (  راقصة باليه ديغا  الصغيرة )  وتقول مصممة العرض انها راقصة ديغا الصغيرة  اخيراً قد تحررت من الصندوق الزجاجى الموضوعة بداخله لتخرج للمسرح وتقدم عروضها  وقصة العرض المسرحى مستوحاة من القصة الحقيقة لتلك الفتاة ( مارى فان )التى كانت كالعديد من فتيات باريس الفقيرات فى ذلك الوقت اللاوتى تذهبن للأنضمام لفرقة الباليه حيث كان من النادر وقتها انضمام احد فتيات الاسر الارستقراطية لذلك النوع من الفنون وكانت تلك الفتاة الصغيرة واحدة من بين ثلاثة  من الشقيقات الفقيرات تذهبن لمدرسة اوبرا باريس لتغطية نفقاتهن الا ان امهن زجت بهن لممارسة الدعارة  وكان ديغا له دور لرجوع تلك الفتاة لتمارس دروس الرقص حتى اصبحت فيما بعد واحدة من اشهر راقصات باليه اوبرا باريس ,  وتقول مصممة العرض انها عادت مرة اخرى للماضى وبالتحديد عند لوحات ديغا التى كانت مرجع اساسى ومهم فى الديكور والأزياء والملابس ,  واتجه  الفنان لاستخدام الباستيل فى نهاية حياته  لقوله بأن الباستيل يكسب للعمل تأثيرات درامية , وينتمى ديغا للحركة الانطباعية وتزامل مع اشهر روادها فى ذلك الوقت  مثل مونيه ومارى كاسات  سيزان وفان كوخ إلا ان مؤرخ الفن  فرديريك هارت يقول عن اعمال ديغا انها  بعيدة عن الانطباعية بينما هو كان يفسر لوحاته على اساس انها  بسيطة و بعيدة عن الالغام والتعقيدات  التى يضعها فيها النقاد و انها رؤية خاصة به  وبالرغم من كل ذلك  عاش ديغا بعاهة فى احد عيناه عندما جند فى الحرب الفرنسية الروسية 1870 واصابته طلقة من البندقية اثناء التدريب الا انها لم تؤثر على  لوحاته اثناء ممارسته الرسم ولكنها فى النهاية الحقت به العمى الكامل حتى  مات ديغا فى مرسمه عام 1917 عن عمر 83 عاما وهو بعد غير راض عن اعماله  وعلى حسب قوله لم يصل للكمال التام واكتشفت فى منزله بعد موته اكثر من  150 منحوتة من الشمع والطين كلها لراقصات الباليه ولم يكشف عنها الفنان طيلة حياته سواء فى مذكراته او مراسلاته وهذه التماثيل كانت من شمع العسل والطين المجفف والجص والبرونز  ولكن هل كان ديغا نحاتاً ؟ يقول فى ذلك الراحل كيرك فيرنادو كبير امناء الرسم والنحت فى  متحف الفن الحديث لا يمكن ان نناقش هذه الاعمال على سبيل النحت كما يحدث مثلاً فى اعمال ردوان ومن الواضح ان ديغا نفسه لم يكن مهتم بأن يدرج نفسه تحت قائمة النحاتين  ربما كان يملك بعض الافكار الخاصة به فحاول ان يجربها او يطبقها .